فصل: ذكر وصول طغرلبك إلى بغداد والخطبة له بها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر وصول طغرلبك إلى بغداد والخطبة له بها:

قد ذكرنا قبل مسير طغرلبك إلى الري، بعد عوده من غزو الروم، للنظر في ذلك الطرف، فلما فرغ من الري عاد إلى همذان في المحرم من هذه السنة، وأظهر أنه يريد الحج، وإصلاح طريق مكة، والمسير إلى الشام ومصر، وإزالة المستنصر العلوي صاحبها.
وكاتب أصحابه بالدينور وقرميسين وحلوان وغيرها، فأمرهم بإعداد الأقوات والعلوفات. فعظم الإرجاف ببغداد، وفت في أعضاد الناس، وشغب الأتراك ببغداد، وقصدوا ديوان الخلافة.
ووصل السلطان طغرلبك إلى حلوان، وانتشر أصحابه في طريق خراسان، فأجفل الناس إلى غربي بغداد، وأخرج الأتراك خيامهم إلى ظاهر بغداد.
وسمع الملك الرحيم بقرب طغرلبك من بغداد، فأصعد من واسط إليها، وفارقه البساسيري في الطريق لمراسلة وردت من القائم في معناه إلى الملك الرحيم أن البساسيري خلع الطاعة، وكاتب الأعداء، يعني المصريين، وأن الخليفة له على الملك عهود، وله على الخليفة مثلها، فإن آثره فقد قطع ما بينهما، وإن أبعده وأصعد إلى بغداد تولى الديوان تدبير أمره، فقال الملك الرحيم ومن معه: نحن لأوامر الديوان متبعون، وعنه منفصلون.
وكان سبب ذلك ما ذكر. وسار البساسيري إلى بلد نور الدولة دبيس بن مزيد المصاهرة بينهما، وأصعد الملك الرحيم إلى بغداد. وأرسل طغرلبك رسولاً إلى الخليفة يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية، وإلى الأتراك البغداديين يعدهم الجميل والإحسان. فأنكر الأتراك ذلك، وراسلوا الخليفة في المعنى، وقالوا: إننا فعلنا بالبساسيري ما فعلناه، وهو كبيرنا، ومقدمنا، بتقدم أمير المؤمنين، ووعدنا أمير المؤمنين بإبعاد هذا الخصم عنا، ونراه قد قرب منا، ولم يمنع من المجيء. وسألوا التقدم عليه في العود، فغولطوا في الجواب، وكان رئيس الرؤساء يؤثر مجيئه، ويختار انقراض الدولة الديلمية.
ثم إن الملك الرحيم وصل بغداد منتصف رمضان، وأرسل إلى الخليفة يظهر العبودية، وأنه قد سلم أمره إليه ليفعل ما تقتضيه العواطف معه في تقرير القواعد مع السلطان طغرلبك، وكذلك قال من مع الرحيم من الأمراء، فأجيبوا بأن المصلحة أن يدخل الأجناد خيامهم من ظاهر بغداد، وينصبوها بالحريم، ويرسلوا رسولاً إلى طغرلبك يبذلون له الطاعة والخطبة، فأجابوا إلى ذلك وفعلوه، وأرسلوا رسلاً إليه، فأجابهم إلى ما طلبوا، ووعدهم الإحسان إليهم.
وتقدم الخليفة إلى الخطباء بالخطبة لطغرلبك بجوامع بغداد، فخطب له يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من السنة، وأرسل طغرلبك يستأذن الخليفة في دخول بغداد، فأذن له، فوصل إلى النهروان، وخرج الوزير رئيس الرؤساء إلى لقائه في موكب عظيم من القضاة، والنقباء، والأشراف، والشهود، والخدم، وأعيان الدولة، وصحبه أعيان الأمراء من عسكر الرحيم. فلما علم طغرلبك بهم أرسل إلى طريقهم الأمراء، ووزيره أبا نصر الكندري، فلما وصل رئيس الرؤساء إلى السلطان أبلغه رسالة الخليفة، واستخلفه للخليفة، وللملك الرحيم، وأمراء الأجناد، وسار طغرلبك ودخل بغداد يوم الاثنين لخمس بقين من الشهر، ونزل بباب الشماسية، ووصل إليه قريش بن بدران، صاحب الموصل، وكان في طاعته قبل هذا الوقت على ما ذكرناه.

.ذكر وثوب العامة ببغداد بعسكر طغرلبك وقبض الملك الرحيم:

لما وصل السلطان طغرلبك بغداد دخل عسكره البلد للامتيار، وشراء ما يريدونه من أهلها، وأحسنوا معاملتهم، فلما كان الغد، وهو يوم الثلاثاء، جاء بعض العسكر إلى باب الأزج، وأخذ واحداً من أهله ليطلب منه تبناً، وهو لا يفهم ما يريدون، فاستغاث عليهم، وصاح العامة بهم ورجموهم، وهاجموا عليهم.
وسمع الناس الصياح، فظنوا أن الملك الرحيم وعسكره قد عزموا على قتال طغرلبك، فارتج البلد من أقطاره، وأقبلوا من كل حدب ينسلون، يقتلون من الغز من وجد في محال بغداد، إلا أهل الكرخ فإنهم لم يتعرضوا إلى الغز، بل جمعوهم وحفظوهم.
وبلغ السلطان طغرلبك ما فعله أهل الكرخ من حماية أصحابه، فأمر بإحسان معاملتهم. فأرسل عميد الملك، الوزير، إلى عدنان بن الرضي، نقيب العلويين، يأمره بالحضور، فحضر، فشكره عن السلطان، وترك عنده خيلاً بأمر السلطان تحرسه وتحرس المحلة.
وأما عامة بغداد فلم يقنعوا بما عملوا، حتى خرجوا ومعهم جماعة من العسكر إلى ظاهر بغداد، يقصدون العسكر السلطاني، فلو تبعهم الملك الرحيم وعسكره لبلغوا ما أرادوا، لكن تخلفوا، ودخل أعيان أصحابه إلى دار الخلافة، وأقاموا بها نفياً للتهمة عن أنفسهم، ظناً منهم أن ذلك ينفعهم.
وأما عسكر طغرلبك فلما رأوا فعل العامة وظهورهم من البلد قاتلوهم فقتل بين الفريقين جمع كثير، وانهزمت العامة، وجرح فيهم وأسر كثير، ونهب الغز درب يحيى، ودرب سليم، وبه دور رئيس الرؤساء ودور أهله، فنهب الجميع، ونهب الرصافة، وترب الخلفاء، وأخذ منها من الأموال ما لا يحصى، لأن أهل تلك الأصقاع نقلوا إليها أموالهم اعتقاداً منهم أنها محترمة. ووصل النهب إلى أطراف نهر المعلى واشتد البلاء على الناس وعظم الخوف، ونقل الناس أموالهم إلى باب النوبي، وباب العامة، وجامع القصر، فتعطلت الجمعات لكثرة الزحمة.
وأرسل طغرلبك من الغد إلى الخليفة يعتب، وينسب ما جرى إلى الملك الرحيم وأجناده، ويقول: إن حضروا برئت ساحتهم، وإن تأخروا عن الحضور أيقنت أن ما جرى إنما كان بوضع منهم.
وأرسل للملك الرحيم وأعيان أصحابه أماناً لهم، فتقدم إليهم الخليفة بقصده، فركبوا إليه، وأرسل الخليفة معهم رسولاً يبرئهم مما خامر خاطر السلطان، فلما وصلوا إلى خيامه نهبهم الغز، ونهبوا رسل الخليفة معهم، وأخذوا دوابهم وثيابهم.
ولما دخل الملك الرحيم إلى خيمة السلطان أمر بالقبض عليه وعلى من معه، فقبضوا كلهم آخر شهر رمضان، وحبسوا، ثم حمل الرحيم إلى قلعو السيروان، وكانت ولاية الملك الرحيم على بغداد ست سنين وعشرة أيام، ونهب أيضاً قريش بن بدران، صاحب الموصل، ومن معه من العرب، ونجا مسلوباً، فاحتمى بخيمة بدر بن المهلهل، فألقوا عليه الزلالي حتى أخفوه بها عن الغز.
ثم علم السلطان ذلك، فأرسل إليه، وخلع عليه، وأمره بالعود إلى أصحابه وحلله تسكيناً له.
وأرسل الخليفة إلى السلطان ينكر ما جرى من قبض الرحيم وأصحابه، ونهب بغداد، ويقول: إنهم إنما خرجوا إليك بأمري وأماني، فإن أطلقتهم، وإلا فأنا أفارق بغداد، فإني إنما اخترتك واستدعيتك اعتقاداً مني أن تعظيم الأوامر الشريفة يزداد، وحرمه الحريم تعظم، وأرى الأمر بالضد. فأطلق بعضهم، وأخذ جميع إقطاعات عسكر الرحيم، وأمرهم بالسعي في أرزاق يحصلونها لأنفسهم. فتوجه كثير منهم إلى البساسيري ولزموه، فكثر جمعه ونفق سوقه.
وأمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك البغداديين، وأرسل إلى نور الدولة دبيس يأمره بإبعاد البساسيري عنه، ففعل، فسار إلى رحبة مالك الشام، على ما نذكره، وكاتب المستنصر، صاحب مصر، بالدخول في طاعته. وخطب نور الدولة طغرلبك في بلاده، وانتشر الغز السلجوقية في سواد بغداد، فنهبوا من الجانب الغربي من تكريت إلى النيل ومن الشرقي إلى النهروان وأسافل الأعمال، وأسرفوا في النهب، حتى بلغ ثمن الثور ببغداد خمسة قراريط إلى عشرة، والحمار بقيراطين إلى خمسة، وخرب السواد، وأجلى أهله عنه.
وضمن السلطان طغرلبك البصرة والأهواز من هزارسب بن بنكير بن عياض بثلاثمائة ألف وستين ألف دينار، وأقطعه أرجان، وأمره أن يخطب لنفسه بالأهواز، دون الأعمال التي ضمنها، وأقطع الأمير أبا علي بن أبي كاليجار الملك قرميسين وأعمالها، وأمر أهل الكرخ أن يؤذنوا في مساجدهم سحراً: الصلاة خير من النوم، وأمر بعمارة دار المملكة، فعمرت، وزيد فيها، وانتقل إليها في شوال.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة وقعت الفتنة بين الفقهاء الشافعية والحنابلة ببغداد، ومقدم الحنابلة أبو علي بن الفراء، وابن التميمي، وتبعهم من العامة الجم الغفير، وأنكروا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعوا من الترجيع في الأذان، والقنوت في الفجر، ووصلوا إلى ديوان الخليفة، ولم ينفصل حال، وأتى الحنابلة إلى مسجد بباب الشعير، فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفاً وقال: أزيلوها من المصحف حتى لا أتلوها.
وفيها كان بمكة غلاء شديد، وبلغ الخبز عشرة أرطال بدينار مغربي، ثم تعذر وجوده، فأشرف الناس والحجاج على الهلاك، فأرسل الله تعالى عليهم من الجراد ما ملأ الأرض فتعوض الناس به، ثم عاد الحاج فسهل الأمر على أهل مكة، وكان سبب هذا الغلاء عدم زيادة النيل بمصر عن العادة، فلم يحمل منها الطعام إلى مكة.
وفيها ظهر باليمن إنسان يعرف بأبي كامل علي بن محمد الصليحي، واستولى على اليمن، وكان معلماً، فجمع إلى نفسه جمعاً، وانتمى إلى صاحب مصر، وتظاهر بطاعته، فكثر جمعه وتبعه، واستولى على البلاد، وقوي على ابن سادل وابن الكريدي المقيمين بها على طاعة القائم بأمر الله، وكان يتظاهر بمذهب الباطنية.
وفيها خطب محمود الخفاجي للمستنصر العلوي، صاحب مصر، بشفاثا والعين، وصار في طاعته.
وفيها، في شوال، توفي قاضي القضاة أبو عبد الله الحسين بن علي بن ماكولا، ومولده سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وبقي في القضاء سبعاً وعشرين سنة، وكان شافعياً، ورعاً، نزهاً، أميناً، وولي بعده أبو عبد الله محمد بن علي بن الدامغاني الحنفي.
وفيها، في ذي القعدة، توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد ابن أمير المؤمنين، ومولده في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة.
وفيها قبض الملك الرحيم قبل وصول طغرلبك إلى بغداد على الوزير أبي عبد الله عبد الرحمن بن الحسين بن عبد الرحيم، وطرح في بئر في دار المملكة، وطم عليه، وكان وزيراً متحكماً في دولته.
وفيها، في المحرم، توفي القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي، ومولده بالبصرة سنة خمس وستين وثلاثمائة، وخلف ولداً صغيراً، وهو أبو الحسن محمد بن علي، ثم توفي في شوال سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وانقرض بيته بموته، قال القاضي أبو عبد الله بن الدامغاني: دخلت على أبي القاسم قبل موته بقليل، فأخرج إلي ولده هذا من جاريته وبكى فقلت: تعيش إن شاء الله وتربيه، فقال: هيهات! والله ما يتربى إلا يتيماً، وأنشد:
أرى ولد الفنى كلاً عليه، ** لقد سعد الذي أمسى عقيما

فإما أن تربيه عدواً، ** وإما أن تخلفه يتيما

فتربى يتيماً كما قال.
وفي جمادى الأولى توفي أبو محمد الحسن بن رجاء الدهان اللغوي.
وفي جمادى الآخرة فيها توفي أبو القاسم منصور بن حمزة بن إبراهيم الكرخي من كرخ جدان، الفقيه الشافعي.
وفي رجب توفي أبو نصر أحمد بن محمد الثابتي، الفقيه الشافعي، وهما من شيوخ أصحاب أبي حامد الأسفراييني.
وفي شعبان توفي أبو البركات حسين بن علي بن عيسى الربعي النحوي، وكان ينوب عن الوزراء ببغداد. ثم دخلت:

.سنة ثمان وأربعين وأربعمائة:

.ذكر نكاح الخليفة ابنة داود أخي طغرلبك:

في هذه السنة، في المحرم، جلس أمير المؤمنين القائم بأمر الله جلوساً عاماً، وحضر عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك، وجماعة من الأمراء منهم: أبو علي ابن الملك أبي كاليجار، وهزارسب بن بنكير بن عياض الكردي، وابن أبي الشوك، وغيرهم من الأمراء الأتراك من عسكر طغرلبك.
وقام عميد الملك، وزير طغرلبك، وبيده دبوس، ثم خطب رئيس الرؤساء وعقد العقد على أرسلان خاتون، واسمها خديجة ابنة داود أخي السلطان طغرلبك، وقبل الخليفة بنفسه النكاح، وحضر العقد نقيب النقباء أبو علي بن أبي تمام، وعدنان ابن الشريف الرضي، نقيب العلويين، وأقضى القضاة الماوردي، وغيرهم، وأهديت خاتون إلى الخليفة في هذه السنة أيضاً في شعبان، وكانت والدة الخليفة قد سارت ليلاً وتسلمتها وأحضرتها إلى الدار.

.ذكر الحرب بين عبيد المعز بن باديس وعبيد ابنه تميم:

في هذه السنة وقعت الحرب بين عبيد المعز، المقيمين بالمهدية، وعبيد ابنه تميم، بسبب منازعة أدت إلى المقاتلة، فقامت عامة زويلة وسائر من بها من رجال الأسطول مع عبيد تميم، فأخرجوا عبيد المعز، وقتل منهم كثير، ومضى الباقون منهم يريدون المسير إلى القيروان، فوضع عليهم تميم العرب، فقتلوا منهم جمعاً غفيراً، وهذه النوبة هي سبب قتل تميم من قتل من عبيد أبيه لما ملك.

.ذكر ابتداء دولة الملثمين:

في هذه السنة كان ابتداء أمر الملثمين، وهم عدة قبائل ينسبون إلى حمير، أشهرها: لمتونة، ومنها أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، وجدالة ولمطة.
وكان أول مسيرهم من اليمن، أيام أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فسيرهم إلى الشام وانتقلوا إلى مصر، ودخلوا المغرب مع موسى بن نصير، وتوجهوا مع طارق إلى طنجة، فأحبوا الانفراد، فدخلوا الصحراء واستوطنوها إلى هذه الغاية.
فلما كان هذه السنة توجه رجل منهم، اسمه الجوهر، من قبيلة جدالة إلى إفريقية، طالباً للحج، وكان محباً للدين وأهله، فمر بفقيه بالقيراون، وعنده جماعة يتفقهون، قيل: هو أبو عمران الفاسي في غالب الظن، فأصغى الجوهر إليه، وأعجبه حالهم.
فلما انصرف من الحج قال للفقيه: ما عندنا في الصحراء من هذا شيء غير الشهادتين، والصلاة في بعض الخاصة، فابعث معي من يعلمهم شرائع الإسلام! فأرسل معه رجلاً اسمه عبد الله بن ياسين الكزولي، وكان فقيهاً، صالحاً، شهماً، فسار معه حتى أتيا قبيلة لمتونة، فنزل الجوهر عن جمله، وأخذ بزمام جمل عبد الله بن ياسين، تعظيماً لشريعة الإسلام، فأقبلوا إلى الجوهر يهنئونه بالسلامة، وسألوه عن الفقيه فقال: هذا حامل سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد جاء يعلمكم ما يلزم في دين الإسلام. فرحبوا بهما، وأنزلوهما، وقالوا: تذكر لنا شريعة الإسلام، فعرفهم عقائد الإسلام وفرائضه، فقالوا: أما ما ذكرت من الصلاة، والزكاة، فهو قريب، وأما قولك من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنى يجلد، أو يرجم، فأمر لا نلتزمه، اذهب إلى غيرنا.
فرحلا عنهم، فنظر إليهما شيخ كبير فقال: لا بد وأن يكون لهذا الجمل في هذه الصحراء شأن يذكر في العالم. فانتهى الجوهر والفقيه إلى جدالة، قبيل الجوهر، فدعاهم عبد الله بن ياسين والقبائل الذين يجاورونهم إلى حكم الشريعة، فمنهم من أطاع، ومنهم من أعرض وعصى.
ثم إن المخالفين لهم تحيزوا، وتجمعوا، فقال ابن ياسين للذين أطاعوا: قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الذين خالفوا الحق، وأنكروا شرائع الإسلام، واستعدوا لقتالكم، فأقيموا لكم راية، وقدموا عليكم أميراً. فقال الجوهر: أنت الأمير! فقال: لا، إنما أنا حامل أمانة الشريعة، ولكن أنت الأمير. فقال الجوهر: لو فعلت هذا تسلط قبيلي على الناس، ويكون وزر ذلك علي. فقال له ابن ياسين: الرأي أن نولي ذلك أبا بكر بن عمر، رأس لمتونة وكبيرها، وهو رجل سيد، مكشور الطريقة، مطاع في قومه، فهو يستجيب لنا لحب الرئاسة، وتبعه قبيلته، فنتقوى بهم.
فأتيا أبا بكر بن عمر، وعرضا ذلك عليه، فأجاب، فعقدوا له البيعة، وسماه ابن ياسين أمير المسلمين، وعادوا إلى جدالة، وجمعوا إليهم من حسن إسلامه، وحرضهم عبد الله بن ياسين على الجهاد في سبيل الله، وسماهم مرابطين، وتجمع عليهم من خالفهم، فلم يقاتلهم المرابطون بل استعان ابن ياسين وأبو بكر بن عمر على أولئك الأشرار بالمصلحين من قبائلهم، فاستمالوهم وقربوهم حتى حصلوا منهم نحو ألفي رجل من أهل البغي والفساد، فتركوهم في مكان، وخندقوا عليهم، وحفظوهم، ثم أخرجوهم قوماً بعد قوم، فقتلوهم، فحينئذ دانت لهم أكثر قبائل الصحراء، وهابوهم، فقويت شوكة المرابطين.
هذا وعبد الله مشتغل بالعلم، وقد صار عنده جماعة من يتفقهون، ولما استبد بالأمر هو وأبو بكر بن عمر عن الجوهر الجدالي وبقي لا حكم له تداخله الحسد، وشرع سراً في فساد الأمر، فعلم بذلك منه وعقد له مجلس، وثبت عليه ما نقل عنه، فحكم عليه بالقتل لأنه نكث البيعة، وشق العصا، وأارد محاربة أهل الحق، فقتل بعد أن صلى ركعتين، وأظهر السرور بالقتل طلباً للقاء الله تعالى. فاجتمعت القبائل على طاعتهم، ومن خالفهم قتلوه.
فلما كان سنة خمسين وأربعمائة قحطت بلادهم، فأمر ابن ياسين ضعفاءهم بالخروج إلى السوس وأخذ الزكاة، فخرج منهم نحو تسعمائة رجل، فقدموا سجلماسة، وطلبوا الزكاة، فجمعوا لهم شيئاً له قدر وعادوا.
ثم إن الصحراء ضاقت عليهم، وأرادوا إظهار كلمة الحق، والعبور إلى الأندلس ليجاهدوا الكفار، فخرجوا إلى السوس الأقصى، فجمع لهم أهل السوس وقاتلوهم، فانهزم المرابطون، وقتل عبد الله بن ياسين الفقيه، فعاد أبو بكر بن عمر فجمع جيشاً وخرج إلى السوس في ألفي راكب، فاجتمع من بلاد السوس وزناتة اثنا عشر ألف فارس فأرسل إليهم وقال: افتحوا لنا الطريق لنجوز إلى الأندلس ونجاهد أعداء الإسلام، فأبوا ذلك، فصلى أبو بكر، ودعا الله تعالى، وقال: اللهم إن كنا على الحق فانصرنا، وإلا فأرحنا من هذه الدنيا. ثم قاتلهم وصدق هو وأصحابه القتال، فنصرهم الله تعالى، وهزم أهل السوس ومن معهم وأكثر القتل فيهم، وغنم المرابطون أموالهم وأسلابهم، وقويت نفسه ونفوس أصحابه، وساروا إلى سجلماسة فنزلوا عليها، وطلبوا من أهلها الزكاة، فامتنعوا عليهم، وسار إليهم صاحب سجلماسة فقاتلهم فهزموه وقتلوه، ودخلوا سجلماسة واستولوا عليها، وكان ذلك سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.

.ذكر ولاية يوسف بن تاشفين:

لما ملك أبو بكر بن عمر سجلماسة استعمل عليها يوسف بن تاشفين اللمتموني، وهو من بني عمه الأقربين، ورجع إلى الصحراء، فأحسن يوسف السيرة في الرعية، ولم يأخذ منهم سوى الزكاة، فأقام بالصحراء مدة، ثم عاد أبو بكر بن عمر إلى سجلماسة، فأقام بها سنة، والخطبة والأمر والنهي له، واستخلف عليها ابن أخيه أبا بكر بن إبراهيم بن عمر، وجهز مع يوسف ابن تاشفين جيشاً من المرابطين إلى السوس ففتح على يديه.
وكان يوسف رجل ديناً، خيراً، حازماً، داهية، مجرباً، وبقوا كذلك إلى سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتوفي أبو بكر بن عمر بالصحراء، فاجتمعت طوائف المرابطين على يوسف بن تاشفين، وملكوه عليهم، ولقبوه أمير المسلمين، وكانت الدولة في بلاد المغرب لزناتة الذين ثاروا في أيام الفتن، وهي دولة ردية، مذمومة، سيئة السيرة، لا سياسة ولاديانة، وكان أمير المسلمين وطائفته على نهج السنة، واتباع الشريعة، فاستغاث به أهل المغرب، فسار إليها وافتتحها حصناً حصناً، وبلداً بلداً بأيسر سعي، فأحبه الرعايا، وصلحت أحوالهم.
ثم إنه قصد موضع مدينة مراكش، وهو قاع صفصف، لا عمارة فيه، وهو موضع متوسط في بلاد المغرب كالقيراون في أفريقية، ومراكش تحت جبال المصامدة الذين هم أشد أهل المغرب قوة، وأمنعهم معقلاً، فاختط هناك مدينة مراكش ليقوى على قمع أهل تلك الجبال إن هموا بفتنة، واتخذها مقراً، فلم يتحرك أحد بفتنة، وملك البلاد المتصلة بالمجاز مثل سبتة، وطنجة، وسلا، وغيرها، وكثرت عساكره.
وخرجت جماعة قبيلة لمتونة وغيرهم، وضيقوا حينئذ لثامهم، وكانوا قبل أن يملكوا يتلثمون في الصحراء من الحر والبرد، كما يفعل العرب، والغالب على ألوانهم السمرة، فلما ملكوا البلاد ضيقوا اللثام.
وقيل كان سبب اللثام لهم أن طائفة من لمتونة خرجوا مغيرين على عدو لهم، فخالفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا المشايخ، والصبيان والنساء، فلما تحقق المشايخ أنه العدو أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال، ويتلثمن، ويضيقنه، حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح. ففعلن ذلك، وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن، واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدو رأى جمعاً عظيماً، فظنه رجالاً، فقال: هؤلاء عند حرمهم يقاتلون عنهن قتال الموت، والرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجاً عن حريمهم.
فبينما هم في جميع النعم من المراعي إذ قد أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدو فأكثروا، وكان من قتل النساء أكثر، فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة يلازمونه، فلا يعرف الشيخ من الشاب، فلا يزيلونه ليلاً ولا نهاراً، ومما قي في اللثام:
قوم لهم درك العلى في حمير، ** وإن انتموا صنهاجةً بهم هم

لما حووا إحراز كل فضيلة، ** غلب الحياء عليهم فتلثموا

.ذكر تبييض أبي الغنائم بن المحلبان:

في هذه السنة بيض علاء الدين أبو الغنائم بن المحلبان بواسط، وخطب فيها للعلويين المصريين.
وكان سبب ذلك أن رئيس الرؤساء سعى له في النطر على واسط وأعمالها، فأجيب إلى ذلك، فانحدر إليها، فصار عنده جماعة من أعيانها، وجند جماعة عظيمة، وتقوى بالبطائحيين، وحفر على الجانب الغربي من واسط خندقاً، وبنى عليه سوراً، وأخذ ضريبة من سفن أصعدت للخليفة، فسير لحربه عميد العراق أبو نصر، فاقتتلوا، فانهزم ابن المحلبان، وأسر من أصحابه عدد كثير، ووصل أبو نصر إلى السور، فقاتله العامة من على السور.
ثم تسلم البلد، وأمر أهله بطم الخندق، وتخريب السور، ثم أصعد إلى بغداد، فلما فارقها عاد إليها ابن فسانجس، ونهب قرية عبد الله، وقتل كل أعمى رآه بواسط، وأعاد خطبة المصريين، وأمر أهل كل محلة بعمارة ما يليهم من السور.
ومضى منصور بن الحسين إلى المدار، وأرسل إلى بغداد يطلب المدد، فكتب إليه عميد العراق ورئيس الرؤساء يأمرانه أن يقصد واسطاً هو وابن الهيثم، وأن يحاصرها، فأقبلا إليها فيمن معهما وحصروها في الماء والبر، وكان هذا الحصار سنة تسع وأربعين، فاشتد فيها الغلاء حتى بيع التمر، والخبز، وكروش البقر، كل خمسة أرطال بدينار، وإذا وجد الخبازى باعوه كل عشرين رطلاً بدينار.
ثم ضعفوا وضجروا من الحصار، فخرج ابن فسانجس ليقاتل، فلم يثبت، وقتل جماعة من أصحابه، وانهزموا إلى سور البلد، واستأمن جماعة من الواسطيين إلى منصور بن الحسين، وفارق ابن فسانجس واسطاً، ومضى إلى قصر ابن أخضر، وسار إليه طائفة من العسكر ليقاتلوه، فأدركوه بقرب النيل، فأسر هو وأهله، وحمل إلى بغداد، فدخلها في صفر سنة تسع وأربعين وشهر على جمل، وعليه قميص أحمر، وعلى رأسه طرطور بودع، وصلب.